كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ} الحطم: الكسر، يقال: حطمته حطمًا أي كسرته كسرًا، وتحطم: تكسر، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل، وفي الحقيقة لسليمان، فهو من باب: لا أرينك هاهنا، ويجوز أن يكون بدلًا من الأمر، ويحتمل أن يكون جوابًا للأمر.
قال أبو حيان: أما تخريجه على جواب الأمر، فلا يكون إلاّ على قراءة الأعمش، فإنه قرأ: {لا يحطمكم} بالجزم بدون نون التوكيد، وأما مع وجود نون التوكيد، فلا يجوز ذلك إلاّ في الشعر.
قال سيبويه: وهو قليل في الشعر، شبهوه بالنهي حيث كان مجزومًا.
وقرأ أبيّ: {ادخلوا مساكنكنّ} وقرأ شهر بن حوشب: {مسكنكم} وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني: {لا يحطمنكم} بضمّ الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء.
وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد وجملة: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} في محل نصب على الحال من فاعل {يحطمنكم} أي لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم، وقيل: إن المعنى: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها، وهو بعيد.
{فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا} قرأ ابن السميفع: {ضحكًا} وعلى قراءة الجمهور يكون {ضاحكًا} حالًا مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم.
وقيل: هي حال مقدّرة لأن التبسم أوّل الضحك.
وقيل: لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبينًا له، وقيل: إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير، وعلى قراءة ابن السميفع يكون {ضحكًا} مصدرًا منصوبًا بفعل محذوف أو في موضع الحال، وكان ضحك سليمان تعجبًا من قولها وفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل {وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} قد تقدّم بيان معنى أوزعني قريبًا في قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال في الكشاف: وحقيقة أوزعني: اجعلني أزع شكر نعمك عندي وأكفه وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرًا لك. انتهى.
قال الواحدي: أوزعني، أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ، يقال: فلان موزع بكذا أي مولع به. انتهى.
قال القرطبي: وأصله من وزع، فكأنه قال: كفني عما يسخطك. انتهى.
والمفعول الثاني لأوزعني هو: أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وقال الزجاج: إن معنى {أوزعني} امنعني أن أكفر نعمتك، وهو تفسير باللازم، ومعنى {وعلى وَالِدَيَّ} الدعاء منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه كما أوزعه شكر نعمته عليه، فإن الإنعام عليهما إنعام عليه، وذلك يستوجب الشكر منه لله سبحانه، ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها، ولاسيما النعم الدينية، فقال: {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} أي عملًا صالحًا ترضاه مني، ثم دعا أن يجعله الله سبحانه في الآخرة داخلًا في زمرة الصالحين فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق الطلب بها، فقال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين}، والمعنى: أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي في أسمائهم، واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين، وهي الجنة.
اللهم وإني أدعوك بما دعاك به هذا النبيّ الكريم، فتقبل ذلك مني، وتفضل عليّ به، فإني وإن كنت مقصرًا في العمل، ففضلك هو سبب الفوز بالخير، فهذه الآية منادية بأعلى صوت، وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المؤمنين بالتفضل منك لا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق المصدوق فيما ثبت عنه في الصحيح: «سدّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمته» فإذا لم يكن إلاّ تفضلك الواسع، فترك طلبه منك عجز، والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع.
ثم شرع سبحانه في ذكر قصة بلقيس، وما جرى بينها وبين سليمان، وذلك بدلالة الهدهد، فقال: {وَتَفَقَّدَ الطير} التفقد: تطلب ما غاب عنك، وتعرّف أحواله، والطير: اسم جنس لكلّ ما يطير، والمعنى: أنه تطلب ما فقد من الطير، وتعرف حال ما غاب منها، وكانت الطير تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها {فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} أي: ما للهدهد لا أراه؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيرًا، وقيل: لا حاجة إلى ادّعاء القلب، بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد، كأنه قال: مالي لا أراه؟ هل ذلك لساتر يستره عني، أو لشيء آخر؟ ثم ظهر له أنه غائب، فقال: {أم كان من الغائبين} و{أم} هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام وأيوب {مالي} بفتح الياء، وكذلك قرؤوا في يس: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} [ياس: 22] بفتح الياء، وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي، ويعقوب، وقرأ الباقون بفتح التي في يس وإسكان التي هنا.
قال أبو عمرو: لأن هذه التي هنا استفهام، والتي في يس نفي، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان.
{لأعَذّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ}.
اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو؟ فقال مجاهد وابن جريج: هو أن ينتف ريشه جميعًا.
وقال يزيد بن رومان: هو أن ينتف ريش جناحيه.
وقيل: هو أن يحبسه مع أضداده، وقيل: أن يمنعه من خدمته، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب لا على قدر الجسد.
وقوله: {عَذَابًا} اسم مصدر على حذف الزوائد كقوله: {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17].
{أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشدّدة بعدها نون الوقاية، وقرأ الباقون بنون مشدّدة فقط، وهي نون التوكيد، وقرأ عيسى بن عمر بنون مشدّدة مفتوحة غير موصولة بالياء، والسلطان المبين هو: الحجة البينة في غيبته.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي الهدهد مكث زمانًا غير بعيد.
قرأ الجمهور {مكث} بضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها، ومعناه في القراءتين: أقام زمانًا غير بعيد.
قال سيبويه: مكث يمكث مكوثًا كقعد يقعد قعودًا.
وقيل: إن الضمير في مكث لسليمان.
والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زمانًا غير طويل، والأوّل أولى {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي علمت ما لم تعلمه من الأمر، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته، ولعلّ في الكلام حذفًا، والتقدير: فمكث الهدهد غير بعيد، فجاء، فعوتب على مغيبه، فقال معتذرًا عن ذلك: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}.
قال الفراء: ويجوز إدغام التاء في الطاء، فيقال: أحطّ، وإدغام الطاء في التاء، فيقال: أحتّ {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} قرأ الجمهور من سبأ بالصرف على أنه اسم رجل، نسب إليه قوم، ومنه قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبأ ** قد غضّ أعناقهم جلد الجواميس

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بفتح الهمزة، وترك الصرف على أنه اسم مدينة، وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل، وقال: سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن بينها وبين صنعاء ثلاثة أيام.
وقيل: هو اسم امرأة سميت بها المدينة.
قال القرطبي: والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي من حديث فروة ابن مسيك المرادي.
قال ابن عطية: وخفي هذا على الزجاج، فخبط خبط عشواء.
وزعم الفراء: أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ، فقال: ما أدري ما هو؟ قال النحاس: وأبو عمرو أجلّ من أن يقول هذا، قال: والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته، فلأنه قد صار اسمًا للحيّ، وإن لم تصرفه جعلته اسمًا للقبيلة مثل ثمود، إلاّ أن الاختيار عند سيبويه الصرف. انتهى.
وأقول: لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس، وهو أيضًا اسم رجل من قحطان، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود، ولكن المراد هنا أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ مما وصفه، وسيأتي في آخر هذا البحث من المأثور ما يوضح هذا، ويؤيده، ومعنى الآية: أن الهدهد جاء سليمان من هذه المدينة بخبر يقين، والنبأ هو: الخبر الخطير الشأن.
فلما قال الهدهد لسليمان ما قال، قال له سليمان: وما ذاك؟ فقال: {إِنّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ}، وهي بلقيس بنت شرحبيل، وجدها الهدهد تملك أهل سبأ، والجملة هذه كالبيان، والتفسير للجملة التي قبلها أي ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْء} فيه مبالغة، والمراد: أنها أوتيت من كلّ شيء من الأشياء التي تحتاجها.
وقيل: المعنى: أوتيت من كلّ شيء في زمانها شيئًا، فحذف شيئًا؛ لأن الكلام قد دلّ عليه {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير عظيم، ووصفه بالعظم؛ لأنه- كما قيل- كان من ذهب طوله ثمانون ذراعًا، وعرضه أربعون ذراعًا، وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعًا مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر.
وقيل: المراد بالعرش هنا: الملك، والأوّل أولى لقوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة، ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وسرير عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله سبحانه، قيل: كانوا مجوسًا، وقيل: زنادقة {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} التي يعملونها، وهي عبادة الشمس، وسائر أعمال الكفر {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} أي صدّهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح، وهو الإيمان بالله وتوحيده {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} إلى ذلك.
{أَلاَّ يَسْجُدُواْ} قرأ الجمهور بتشديد {ألا}.
قال ابن الأنباري: الوقف على فهم لا يهتدون غير تامّ عند من شدّد ألا، لأن المعنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا.
قال النحاس: هي أن دخلت عليها لا، وهي في موضع نصب.
قال الأخفش: أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى: لئلا يسجدوا لله.
وقال الكسائي: هي في موضع نصب بصدّهم أي فصدّهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا، فهو على الوجهين مفعول له.
وقال اليزيدي: إنه بدل من أعمالهم في موضع نصب.
وقال أبو عمرو: في موضع خفض على البدل من السبيل.
وقيل: العامل فيها {لا يهتدون} أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وتكون لا على هذا زائدة كقوله: {وَمَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12].
وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة؛ لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود: إما بالتزيين أو بالصدّ، أو بمنع الاهتداء، وقد رجح كونه علة للصدّ الزجاج، ورجح الفراء كونه علة لزين، قال: زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا، ثم حذفت اللام.
وقرأ الزهري والكسائي بتخفيف {ألا} قال الكسائي: ما كنت أسمع الأشياخ يقرؤونها إلاّ بالتخفيف على نية الأمر، فتكون {ألاّ} على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح، وما بعدها حرف نداء، واسجدوا فعل أمر، وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا ألا يا اسجدوا، ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ ووصلوا الياء بسين اسجدوا، فصارت صورة الخط ألاّ يسجدوا، والمنادى محذوف، وتقديره: ألاّ يا هؤلاء اسجدوا.
وقد حذفت العرب المنادى كثيرًا في كلامها، ومنه قول الشاعر:
ألاّ يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ** ولا زال منهلًا بجرعائك القطر

وقول الآخر:
ألاّ يا اسلمى ثم اسلمي ثمت اسلمى ** ثلاث تحيات وإن لم تكلم

وقول الآخر أيضًا:
ألاّ يا اسلمي يا هند هند بني بكر ** وهو كثير في أشعارهم

قال الزجاج: وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد، واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد.
قال الزجاج: ولقراءة التخفيف وجه حسن إلاّ أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم.
والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضًا لا انقطاع في وسطه، وكذا قال النحاس، وعلى هذه القراءة تكون جملة {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} معترضة من كلام الهدهد، أو من كلام سليمان، أو من كلام الله سبحانه.